Tuesday, November 27, 2018


دنيا الجبابرة .. ونهاياتها القاحلة (4)


هالة الدسوقي


هالة الدسوقي


أيمكن أن يوجد من الجبابرة "جماعات" .. أقوام، بل شعوب أو أمم .. اتفقوا على الباطل والفساد والجبروت، وكرهوا الحق والعدل وخاصموا الإيمان .. نعم قد يوجد فهذه الدنيا تتسع لكل تصور .. وخير دليل على ذلك "يأجوج ومأجوج" أمتين اجتمعتا على الفساد، كما ورد في كتاب الله العزيز، حيث قال سبحانه وتعالى :" "إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ (94)" الكهف.

ولعل ذكر "يأجوج ومأجوج" كفيل بإثارة الرعب داخل النفوس، ويلعب الخيال دوره في تصوير أشكال هؤلاء وكيف يكونون؟ أهم من أكلة لحوم البشر؟ أم يهددون حياتهم بإفسادهم وتجبرهم ؟ ما نعلمه بنص الآية أن فسادهم لم يكن يُطاق، فهم أمتين لم يقدر عليهم البشر في عصرهم، إلا أن لجأوا لذي القرنين لما مكنه الله من الأسباب ليفصل بينهم وبين هؤلاء القوم، ولم يكن لهم حل سوى العزل التام بينهم وبين العالمين لوقت لا يعلمه سوى الله سبحانه وتعالى يخرجون فيه لمواجهة البشر ثانية، وهو ما يُعد من علامات القيامة الكبرى.

ومن جبابرة الشعوب أيضا "بنو إسرائيل"، وهم قتلة الأنبياء ولم يقتل الأنبياء والمرسلين غيرهم، وقصصهم عديدة فصّل القرآن منها قصتهم مع سيدنا موسى، عليه السلام، فيجعل عصيانهم وجحودهم وكفرهم الدم يغلى في العروق، فقد استعبدهم فرعون وآذاقهم من العذاب أشده، فقد ذبّح البنين واحتبس البنات للخدمة، وأجبرهم على عبادته كـ"إله"،  وتحملوا أذاه ورضخوا لجبروته، حتى بعث الله موسى رسولاً، فبدأ بدعوة فرعون وقومه لعبادة الله الأحد كما جاء في كتابه العزيز "اذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ (17) فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَىٰ أَن تَزَكَّىٰ (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَىٰ رَبِّكَ فَتَخْشَىٰ (19)" النازعات .

وأيد الله، جل وعلا، نبيه بتسع آيات عايشها فرعون وقومه وشاهدها بنو اسرائيل ولم تضرهم، ولم يؤمن فرعون وقومه ونالوا جميعا ما يستحقون من غرق ومن عذاب في جهنم "وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)"غافر ... بينما نجا بني إسرائيل من فرعون وقومه وبدأت قصة معاناة كليم الله مع قومه الجبابرة.

ارتكب بنو إسرائيل  كافة المعاصي والآثام حتى وصلوا لحد الكفر، حيث كان أول ما طلبوه من رسولهم، ولم تكد أعينهم تغادر معجزة "شق البحر"،  حتى طالبوه بأن يجعل لهم إله "صنم" يعبدوه " فجاء بسورة الأعراف الآية 138" وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَىٰ قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَىٰ أَصْنَامٍ لَّهُمْ ۚ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَٰهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ "... كيف يحدث ذلك؟ وهل استطاعوا النسيان بهذه السرعة معجزة "شق البحر"؟! والمسألة تتخلص في أنهم جبابرة في الغباء والذل..وأيضا عبيد لأفكار لا تغادرهم ولذا فالحرية لم تروق لهم.

ولمن يقرأ قصة سيدنا موسى مع قومه يعلم لماذا هو من أولى العزم، فقد طاق معهم ما لا يُطاق، فعندما ذهب لميقات ربه وتأخر عشرة أيام عنهم عبدوا "العجل" وتشبعت قلوبهم بحبه حبا جما، والفكرة أن قلوبهم لم يلمسها الإيمان من قريب أو بعيد فهي "عمياء" كما أعينهم التي رأت كافة معجزات رسولهم ولم تؤثر فيها قيد أنملة، فهي قلوب عبيد أذلاء وصفها الله سبحانه وتعالى أبلغ وصف ،حيث قال في كتابه العزيز :" ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ۚ وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ " (74) البقرة .. ولذا ظلوا يسيرون وراء فكرة تجسيد الإله فذلك فرعون بشر مثلهم يمشي على الأرض،وبحثهم عن "صنم" يسجدون له، وهو ما حققه لهم "السامري" بصنعه العجل وقد تبعه أغلبهم.

وقد يتصور البعض أن مسلك الكفر هو مسلك عامة القوم وربما يوجد أفاضل تمتعوا بقلب سليم، ولكن هيهات فحتى أحسنهم شطحوا في أمانيهم فطلبوا من موسى أن يروا الله جهرة وقتما ذهبوا للاعتذار عن عبادة العجل، وهم كما اتفقنا تداعب خيالهم دائما فكرة "تجسيد الإله" ورؤيته رؤي العين فكان جزاءهم أن أماتهم الله " وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ (55) " البقرة.. وهؤلاء سبعين من أخيار بني إسرائيل فما بال العامة، بالطبع أسوأ وأضل سبيلا، وهم من نطق الله الجبل فوقهم ليأخذوا ما في التوراة بعد رفضهم ذلك " وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ " ، وقولهم لنبيهم :"يا موسى سمعنا وأطعنا ولولا الجبل ما أطعناك" .. إذن فهم لا يستجيبون إلا بالشدة والقسوة والتهديد والوعيد والتخويف وهكذا طبع "جبابرة العبيد".

ولعل الأمثلة على حماقاتهم كثيرة فهذه حادثة البقرة، فلم يصدقوا ما قاله لهم سيدنا موسى بأن الله يأمرهم بذبح بقرة، ولعل هذا الطلب لو بدر من شخص عادي لكان لهم الحق فيما قالوه، ولكن كيف لم تتدرب نفوسهم على القبول والتسليم بما يقوله رسول الله ويعلمون أنه لا ينطق إلا بما يأمره به الله سبحانه وتعالى! فتجسد ألسنتهم ما تحوى قلوبهم من الكفر بهذا الرسول، فكان ردهم على "ذبح البقرة"... "أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا" .. قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ" (67) البقرة، ولتتأمل التسلسل وحب التصعيب على أنفسهم "قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ ..... قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا ..... قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا"...ودائما ما يقولون "ربك" وليس ربنا فقلوبهم لم تكن عابدة لله أبدا.

وليس غريبا أن يتمتع جبابرة العبيد بإساءة الأدب مع الله، ولعل تلك الآية هي أكثر الآيات التي تثير غيظي وحنقى على هؤلاء، ولا أتصور أن تطاوعهم ألسنتهم فيقولون مثل هذه المقولة " فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24)" المائدة .. ولكنها بالنسبة لهم غاية في السهولة، ولذا كان جزاؤهم التيه أربعين سنة " قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ ۛ أَرْبَعِينَ سَنَةً ۛ يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ ۚ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)" البقرة .. وقد فسر البعض طول المدة بأن تكون كافية لاندثار الجيل الذي تشبع الذل وعشقه، وولادة جيل جديد من الأحرار لا تعاني قلوبهم مرض الذل والعبودية.

كما اجتمعوا أيضا على انحطاط الذوق بل انعدامه، فهم دائما ما يفضلون الأدنى وينبذون الأفضل، فضاقوا ذراعا بطعام يتنزل عليهم من السماء وهو الْمَنَّ وَالسَّلْوَىٰ ، :"وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا ۖ قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ" البقرة 61... شيء عجيب هناك من لا يستحق رغد الحياة ونعيمها ودائما ما يكره الراحة وتكون تطلعاته دائما للأدنى.

وهكذا فـ"جبابرة الشعوب" تُعاقب بأن تُعزل عن العالم كـ"يأجوج ومأجوج" المحبوسين إلى يوم لا يعلمه إلا الله، أو بـ"التيه" كما في حالة "بني إسرائيل" فقد انفصلوا عن العالم وحرموا من الوطن أربعة عقود، بعدما آذاقوا رسولهم العذاب بجحودهم وانحطاط ذوقهم وإساءة أدبهم مع الله وغباءهم وكفرهم، وسوف نجد على مر الزمان أقوام أخري على شاكلة هؤلاء تحتاج قصصهم لمجلدات يُمكنهم الله لفترة، ثم يجعل سبحانه الكرة عليهم، فلا يعدو أثرهم عن حروف وكلمات تروى مفاسدهم وتسجل نهاياتهم القاحلة.





hala2662007@gmail.com